حلقة نور على نور
والتي أذيعت في الساعة 2.00 من مساء يوم الجمعة الموافق
أ.د. عصام البشير
الأستاذ / أحمد فراج
سيداتي، وسادتي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في لقاءنا هذه المرة ونحن نرحب بالأستاذ الدكتور عصام البشير، أريد أن أطرح قضية حيوية لا تزال تتجدد باستمرار وهي قضية المرأة، وقضية المرأة من القضايا التي يعتقد البعض أنها تمثل مطاعن على الإسلام والعالم الإسلامي [ عندما يتناوله ] الغرب ويطرحه الغرب على العالم الإسلامي ما رؤية سيادتكم للمشكلة في هذا الحال وكيف، وطبعًا نخن نتحدث ونقول أن الإسلام أعطى للمرأة ما لم تعطيه الحضارة الغربية لها حتى يومنا هذا، لكن الواقع الإسلامي للمرأة قد لا يعزز هذه المقولات وهذه المعطيات التي أعطاها الإسلام للمرأة، ما رأي الأستاذ الدكتور عصام البشير.
أ.د. عصام البشير :
المطالب منا الآن، الغرب قدم نموذجه الحضاري، ونحن مطلوب منا أن نحيي ما نسميه بفقه البدائل، أي لا يكفي أن نقدم الصورة النظرية، ويجب أن نقدم البدائل العملية مثل ما تفضلنا في قضية الاقتصاد وما نتخذ موقف من الربا ونقول أنه محرم، فلابد أن نقدم البديل من خلال المصارف الإسلامية التي تحيي المعاملات على الأصول الشرعية والشركات الخاصة بالتأمين التي تقوم على الأصول الشرعية، وفقه البدائل هو الذي يقرب المثال إلى الواقع، ويعطي صورة حقيقية، وأعتقد أن هذه الخطوة على الطريق الصحيح، قضية المرأة، ظهر فيها فريقان من الناس نحس فيها ما بين الجمود والجحود بين التفلت والتقوقع، وليس الإسلام في الطرح النظري فيما قدم لها الإسلام ولكن واقع المسلمين تجاه التعامل مع قضية المرأة.
أولاً : نحن هنا نحتكم إلى المرجعية التي تمثل النموذج في عصر الإسلام الذهبي الأول نموذج النبي صلى الله عليه وسلم والقرون المفضلة المشهود لها بالخير والإجمال، المرأة التي أسلمت وكان زوجها كافر وأسلمت ومن كان أبوها كافر ومنهن جعلت مهرها الإسلام فاستقلت وهي تأخذ العقيدة وهي تمارس الشعائر وهي تجسد القيم وهي تشارك في حركة الحياة.
- وأنا أعتبر أن الآية القرآنية دلت على منهج واحد ] وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (*) النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (*) مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى (*) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [ الليل والنهار يشتركان في جنس الزمن ولليل مهمة وللنهار مهمة، والرجل والمرأة يشتركان في جنس الإنسان ولعل لكل منهما مهمة، ولكن يبقى الإطار الأول، اشتراك في أصل الإنسانية والكرامة الآدمية، وفي الاشتراك في المسئولية وفي التكليف الشرعي، سواء بسواء، وذلك ما عرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفصل البائن في علاقة الرجل بالمرأة التي كانت تشهد الجمعة والجماعة وكانت تخرج في صلاة العيدين لم يعرف هناك بالفصل بالسائر ولكن كانت صفوف النساء خلف صفوف الرجال، وجعل لهن النبي صلى الله عليه وسلم مدخلاً يدخلن ويخرجن منه، وفي مجالس العلم كانوا يشهدنها مع الرجال، ولما رأين تزاحم الرجال على النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا غلبنا عليك الرجال، شاركن في الجهاد شاركن في العلم في الحياة الاجتماعية والسياسية، وهذا هو الوضع الطبيعي الذي عاشت فيه المرأة، بل حتى أراد بعض الحكام أن يخصص لطواف النساء زمنًا غير طواف الرجال، قال العلماء : ” كيف تمنعوهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال، سوى أنهن كن يتجانبن مع الرجال في معية وفي عدم اختلاط، ولذلك كما نهض المجتمع ولم ينهض بأحد جناحيه وإنما نهض بجناحيه معًا، فالعلم عرف معاذ بن جبل وعرفت عائشة، وعرف عمر بالفقه وعرفت أم الدرداء بالفقه كذلك، عرفت بنت سعيد بن المسيب بالعلم كما عرف أبوها سعيد بن المسيب كذلك، فاطمة السمرقندية وأم الخير وكريمة، كلهن قد روين البخاري ومسلم،ولما أمر عمر بن عبدالعزيز بإشهاد الذهبي في أن يجمع ما تفرق من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره في أن يذهب إلى عمره بنت عبدالرحمن الأنصارية : فقال فوجدها بحرًا لا ينزح وجد عندها من العلم ما تفوق به على الكثير من التابعين “.كثير من أئمة الإسلام تلقوا العلم على النساء على النساء، فإذن نحن قضيتنا بين الإفراط والتفريط، قضيتنا بين الذين وسعوا من مفهوم سد الذرائع وجعلوا مفهوم [ أية قرآنية ] كأنه الحبس وحتى للأسف هذا في عصور الانحطاط نشر ما يسمى بالأحاديث الموضوعة ” لا تسكنوهن الغرف ولا تعلموهن الختام “، ” شاورهن وخالفوهن “، ” حسن بعضهم من استكثر على المرأة أن تقرأ بالسور الطوال، قالوا صلاة الفتاة بالحمد والإخلاص تجز عن يونس ” والعمل كذلك ” ما للنساء وللكتابة والخطابة والعمالة هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة ” كما الغرب اختزلها في بعدها الشهواني هؤلاء اختزلوها في ذات البعد من منكم قال أن المرأة لا تخرج في هذه الدنيا إلا لثلاث، أن تخرج من بطن أمها إلى الدنيا وأن تخرج بيت أبيها إلى بيت زوجها، ومن بيت زوجها إلى القبر، هذا موقف أخذ من المرأة.
الأستاذ أحمد فراج :
هذا ليس بكلام فقهاء أظنه كلام تردد في عصور الانحطاط.
أ.د. عصام البشير :
نعم ولكن هناك في تراثنا من أصل لهذا الفكر وهذا بعض الناس وفي ” قرن في بيوتكن ” أن المرأة لا تخرج إلا للضرورة، يا أخي وقرن إذا فسر بمعنى الحبس، الحبس كان عقوبة في أول التشريع للمرأة التي تأتي الزنا ] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً [ بعد ذلك الآية كانت في سياق الحديث عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهن لهن من الخصوصية ما ليس لغيرهن، حتى إذا قصد بهن العموم، الأية تتحدث عن أدب الخروج بدليل أنهم قالوا لا تبرجوا بتبرج الجاهلية الأولى، التبرج [ فهذا أمرٌ ]، هذا أدب متعلق بحركة الحياة ] وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا [ القول نفسه متعلق بأدب المخاطبة مع الآخر ] وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ هذا متعلق بأدب السعي في حركة الحياة.
فأنا أعتقد أن المرأة اليوم سلاح استغله الخصوم ـ أي الغرب طبعًا ـ جعل المرأة سلعة تباع وتشترى، ونحن كذلك في بعض التيارات التي حاولت أن تحجم دور المرأة، حتى المشاركة السياسية وقالوا أنها تؤدي إلى الاختلاط، والإسلام قرر أهليتها أن تتصرف في المال وأن تكون وكيله عنه وتوكل عنه، ويمكن أن تكون وكيله عن بنات جنسها في الأمة لتمثل قضايا النساء في مجلس الشعب وفي البرلمان وفي غير ذلك.
فحتى في موضوع المشاركة السياسية منهم من منعها بحجة أنها تدخل في مفهوم الولاية العامة، ورد الحديث في سياق ” [ خاب وخسر ] قومٌ ولّوا أمورهم امرأة ” وهذه نكرة وقعت في سياق أفادت العموم مع أن الفقهاء تحدثوا عن المقصود بالولاية الكبرى لكن من دونه كثير من ولاية القضاء ولاية على الفتوى ولاية على الأوقاف والأموال.
الأمر الثاني قضية المبالغة في سد الذرائع لأن المبالغة في سدها تعني المبالغة في فتحها.
الأستاذ / أحمد فراج :
وفي الولاية بعد إذن حضرتك بعض الناس لا يدري أنه لم تصبح الولاية الآن ليست بالولاية الكبرى بالمعنى الدقيق بل هي مسائل مؤسسية.
أ.د. عصام البشير :
نعم هي مؤسسية وأنا أذكر أبو الأعلى المودود رحمه الله عندما وقف مع فاطمة جناح مؤيدا لها على خصمها في الانتخابات وجاء بعض الفقهاء، لكن أنت تؤيد فاطمة جناح، والحديث يقول ” [ خاب وخسر ] قوم ولوا أمورهم امرأة “. قال لهم وهل يفلح قومٌ ولوا أمورهم طاغية، إذا كان المقايسة بين أمرين امرأة تعطي الحريات وتدعي كرامة الإنسان، وتتيح للناس أن يتنافسوا تنافسًا حرًا شريفًا في خدمة قضاياهم، وأن يكونوا آمنين على حياتهم ودماءهم وأنفسهم، والبديل لهذه المرأة هو الطاغية المستبد، يكمم الأفواه ويضايق على الناس.
وهنا اعتبار ما يسمى بفقه الموازنات.
فعمومًا المرأة الآن بدلاً من أن تترك الساحة للمتحللات وحتى العملية التربوية الآن التربية ليست معزولة بوعي المرأة وبمطلوبات التربية وبثقافاتها وبما هو يحتاج إليه في مسيرة المرأة، إن لم تتعلم وتتثقف كيف تستطيع أن تواجه هذا الغزو الثقافي الكاسح الذي غزانا في بيوتنا بغير إذن منا فقد دخلت هذه الفضائيات ودخل الانترنت كيف تواجه هذا كيف تهيئ مناخًا صالحًا لأبنائها وبناتها في البيت إن لم تكن هي على وعي وإدراك بتحديات الحياة ولذلك لابد أن تخوض معركة التدافع الحضاري وتقدم الرؤية الإسلامية المناسبة، وهو ما قلت سلاح ذو حدين، سلاح التحلل من جهة الإسلام، وسلاح الجمود والتزمت من جهة أخرى.
فقد حدث لي موقف عجيب في ولاية إنديانا، دعاني بعض الطلبة وألقيت محاضرة في المسجد وفوجئت أن النساء لم يحضرن قلت لعلهم في الجامعة وغير ذلك، ثم دعاني بعض الأخوة لمحاضرة في صالة صغيرة، قالوا للنساء، فحينما جئت لأتحدث وجدت نفسي جالسًا على كرسي وأمامي ميكرفون والصالة أمامي خالية ليس فيها أحد ثم طلب مني الحديث، فقلت أين الأخوات والنساء قالوا هن في غرفة أخرى، قلت : لما قالوا والله في حرج شرعي من الاستماع إليك قلت : أيذهبن للجامعة قالوا نعم، أيذهبن إلى [ المتاجر ] قالوا نعم، أيذهبن إلى الأسواق قالوا نعم، أيذهبن إلى الأماكن العامة الترفيهية يخالطن الكفار ويتعاملون معهم قالوا نعم، ثم يحرمن من تلقي العلم الشرعي، والله هذا شيء عجيب.
أو ليس توجد بقعة في بيت الله الحرام يطفن فيها مع الرجال ويصلين فيها مع الرجال فهل نحن أكثر غيره على هذا الدين من النبي صلى الله عليه وسلم، أو من هذه البقعة المباركة، يا [ اجعلوا ] في القاعة صفوف النساء خلف صفوف الرجال، كما هو الشأن في المسجد مثلاً، ويستفدن من هذا العلم.
فنحن بين التلميح بها وبين الجمود وتقليد ما ورثوه عن بيئاتهم والتي تكون هذه الأعراف فيها ليست أصيلة من حيث المطلقات الشرعية، فبعض البيئات لا تمكن الخاطب من أن ينظر مخطوبته، ما يدري يدخل عليها بالليل يفاجأ بها ضبعًا ولا سبعًا والله أعلم بها، فهناك الحديث يقول ” انظر إليها فإنه أحرى أن يؤذن بينكما هل نظرت إليها فإن في أعين الأنصار شيئا “، المودة نفسها لابد أن تحدث السكنية النفسية والطمأنينة ليست شيئًا مغلق.
الأستاذ / أحمد فراج :
لابد من المسلمين أن يتحاوروا في مثل هذه القضية حتى نصل على الأقل إلى حد أدنى، حتى نستطيع أن نقول للغرب أن الإسلام أعطى المرأة كذا وكذا، وأعطاها كافة الحقوق، ويجسد هذا في الواقع ويعبر عنه وليس العكس.
أ.د. عصام البشير :
نرى من المؤسف الآن أن عشرات من العلماء المسلمين يشار إليهم بالبنان لكن قل لي لو برزت في الأمة فقيه يشار إليها بالفتوى أو العلم الشرعي ويشار إليها بالدعوة المتميزة والفهم العميق، ليس معنى هذا هو سعي الرجال دون النساء.
الأستاذ / أحمد فراج :
ولكن نجد في بعض المجالات الأخرى ظهور مجموعة من النساء أكثر مما ظهر من الرجال، حتى في الذرّة والاقتصاد والسياسية والإعلام وللمرأة دورها البارز المتميز، فلماذا تحجب عن هذا المجال الذي أعتقد أن الجامعات الإسلامية فتحت المجال نسبيًا لبعضهن.
أ.د. عصام البشير :
نحن نريد أن يضخ الدم في شرايين هذه المعاني وتصحح الحقيقة لتكون المرأة المواكبة لحركة الحياة بتكونها وتفاعلها ونحن عندنا تجربة المرأة التي شاركت في البرلمان، وكذا وزيرة اتحادية ووزيرة ولائية، وكذا رائدة في مداولات المجلس الوطني والبرلمان، وكذا في مختلف المواقع التي أكسبتها الخبرة والتجربة وهي ملتزمة بكل الآداب الشرعية في حركاتها وتعاملاتها مع الرجال.
الأستاذ أحمد فراج :
أ.د. عصام البشير من بين الأطروحات التي تقدم عن الإسلام ومشروعه الحضاري، هل تعتقد أنه من الممكن القول بأن هذا المشروع يتخلص في الآية ] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [ ، هذه واضحة أنه لا يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ليكون رحمة للعالمين، هل يمكن أن تلخص هذه الآية مضمون المشروع في توجهه للنفس الإنسانية للإنسان، الفرد، الأسرة، المجتمع.
أ.د. عصام البشير :
هذه الآية هي الجامعة المانعة والقرآن لا تنقضي عجائبه والنبي صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن ربه عز وجل أيضًا وصف جامع رسالته حينما قال إنما أنا رحمة مهداه، ونرى التعبير بالعالمين يشمل الإنس والجن، ويشمل المؤمنين وغير المؤمنين، وهذه الرحمة وسعت العالم مؤمنًا تابعًا مسالمًا مهادنًا عدونًا مخالفًا حيوانًا أعجمًا نباتًا أخضرًا وسعتهم جميعًا، رحمة ورفقًا وعناية، ولذلك هذه هي لب الرسالة التي نحملها وأنا أجد هذا المعنى قد عبر عنه الإمام علي كرم الله وجهه حينما ولّى مالك بن الأشطر ولاية مصر، ومصر فيها المسلم وغير المسلم قال ” اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قامت بها دول من قبلك بالجور والعدل، وإن الناس سينظرون في أمرك في مثل ما كنت تنظر إليهم من أمور الولاة قبلك فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، وأشعر قلبك الرحمة بالرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم فإنهم سلسال إما أخوك في الإسلام وإما نظيرك في الخلق، يفرط منهم الذلل وتغلب عليهم العلل، ويأتى على أيدهم من العمد والخطأ، فاعطهم من عزمك وصفحك مثل ما تحب أن يعطيك الله من عزمه صفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك والله فوقك يتولاك.
وهذا نموذج رائع يعد دستورًا لمجتمع فيه المؤمنين وغير المؤمنين لكي تظله هذه الرحمة، ولذلك أنا أجد الله من صفاته الرحمن الرحيم وهم يفرقون بين الرحمن والرحيم، الرحيم ] وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [ والرحمن قالوا ذو الرحمة الواسعة الشاملة التي عمت رحمته الخلق ووسعت العباد في معاشهم وأرزاقهم ولذلك سيدنا إبراهيم عليه السلام قال
] وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ [ومن كفر تسعهم هذه (الرَّحْمَنِ)، كل من جادل في أمر الإمامة قال ] وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [ أمر الإمامة هذا ينال بمقاييس ] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [ بالصبر واليقين تنال الإمامة.
ولذلك الرحمة قالوا عنها أنها مركبة من أمرين من رقة وعطف، ومن إحسان، فالله جعل الرقة والتعاطف للبشر وتفضل بالإحسان، ولذلك (رحمن) في الدنيا وفي الآخرة رحمهم، فأنا أعتقد هذه الآية الحقيقة جماع نجد هذه الرحمة انسكبت بدءً في النفس الإنسانية، خلقها الله في أحسن تقويم أسجد لها الملائكة، نفخ فيها من روحه، خلقها بيده، كرمها في الملأ الأعلى علمها أسماء اللغات ومفاتيح العلوم، أمر الملائكة بالسجود لها، وكرمها في الأرض، سخر لها سائر الكائنات وسخر ما في السماوات وما في الأرض، ثم عرفها بذاته العلية، ثم الله عز وجل جعل التوحيد مدخل لسكينة النفس لأنه الحقيقة، حين ينسكب هذا التوحيد على النفس يجعل فيها الطمأنينة ويجعل فيها الرحمة، ويجعل فيها أنها تُخرج خوف المخلوق إلى خوف الخالق، وقال الشاعر السوداني محمد سعيد العباسي مشيرًا لهذا المعنى :
جزا الله هاتيك الحضارة شر ما جزا | بانتظار في الزمان المعاند | |
فلم تك يوما والحوادث جمة | حمى لضعيف أو صلاح لفاسد | |
رعى الله عهد الراشدين وترية | سميت بالعصاميين عمر وخالد | |
أما ويمين الله وهي آلية | تقال فتغنى عن يمين وشاهد | |
سأصفح عن هذا الزمان | وما جنى متى ظفر الكفار منه بماجد | |
وإن القه جف الحياة رخيصة | وأثرته باثنين سيف وساند |
فالسكينة الإيمانية الحقيقية تعطي هذا النوع من الطمأنينة وهذه الرحمة بالنفس الإنسانية من خلال التوحيد، لذلك السحرة لما تجلت فيهم هذه الرحمة قالوا لفرعون ] فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [
متى تجمع القلب الذكي وصارمًا | وأنف حامية تجتنبك المظالمي | |
وقلت إذا قوم غزوني غزوتهم | فهل أنا في ذا همدان ظالم |
العباسي قال :
لا أكفر الرحمن نعمته فلي | فضل بفضل لسان المفتوق | |
مالي أخوف بالعباد وإنما | أمري إلى الخلاق لا إلا المخلوق |
ثم في مجال الرحمة بالنفس أن الله عز وجل فتح لها باب الأمل على مصرعيه في قوله تعالى ] قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا [ ولذلك لا ينبغي أن يتطرق الإحباط إلى النفس الإنسانية.
ثم الرحمن انتقل بها إلى محيط الأسرة، بالعلاقة بين الزوجين، وأنا أعتقد أن الشباب متحمسين لأناشيد الجهاد، فتجد الشاب يريد أن يتزوج في ليلة الزفاف ولأن مفهوم الرحمة غاب حتى حينما يأتي بشاب ويقال له أنشد لي بمناسبة العرس، فيقول بعض الأناشيد القديمة التي تقول ” أقسمت يا نفسي على أن تزلّنّ أو تُكهرنّ، ما لكي تكرهين الجنة “، تلك التي كان يقولها ابن رباح في الجهاد داخل المعركة وليس المقام هنا مقام معركة، فالنبي صلى الله عليه وسلم، أدى مثالاً يراعى في مزاج القوم ( هلا بعثتم معها من يغني فإن الأنصار قوم يعجبهم اللهو قالوا أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم، ولولا الحبة السمراء لم نحلل بواديكم، ولولا الحلقة السمراء، ما سلمت عذاريكم )
الأستاذ / أحمد فراج :
أي كان يدعوهم للاحتفال.
أ.د. عصام البشير :
هذه العلاقة الدافئة الحميمة التي عبرت عن المودة والرحمة، عبر عنها أحد الأدباء حينما جاء ووجد امرأته الحسناء ومن شدة الجمال لم يميز بين جمالها وجمال القمر فقال :
هل رأيت الهلال ووجه الحبيب فكان هلاليين عنــد النظر
ولم أدري مــن حيرتي فيهما هلال السماء من هلال البشر
ولولا التــورد في الوجنتين وما رعاني من سـواد الشعر
لكنت أظـــن الهلال الحبيب وكنت أظــن الحبيب القمر
فالدفء في الرحمة هذه خيركم خيركم لأهله، العلاقة مع الأطفال، فأنا أعرف بعض المتدينين تكون العلاقة بينه وبين أبنائهم علاقة حواجز يفصل بعضها عن بعض، نجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُرى يخطب الجمعة يرى بعض أحفاده وهو يتعثر في مشيته، يقطع الخطبة ثم يضمه إلى حنايا صدره ويصعد به المنبر ويكمل الخطبة وهو في سجوده يصعد على ظهره فيطيل السجود ويقول : إن ابني قد ارتجلني وأني قد كرهت أن أعجّله، أردت حتى يقضي حاجته يا أبا عمير ماذا فعل المغيث، ألينه حين أناديه لأكرمه، ولا ألقبه والسود اللقب، وهو صغير يلعب “.
الأستاذ أحمد فراج :
هل هناك أحد يتصور الآن أن الرسول صلى الله عليه وسلم، يمشي على يديه وركبتيه والحسن والحسين يسابقا عائشة.
أ.د. عصام البشير :
نعم سبقته مرة وسبقها، والآن لو أن أحدًا من أصحاب اللحي الطويلة سابق امرأته لعد ذلك من خوارق المروءة ومن الكبائر.
قال صلى الله عليه وسلم، أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة ” من لا يرحم لا يُرحم” لا تنزع الرحمة إلا من شقى.
فلذلك ابن عباس كان مذهبه غير مذهب ابن عمر، ابن عمر لا يجب أن يحمل الصبية خشية أن تسيل شيء من نجاستها عليه، ابن عباس كان يقول إنما رياحين نشمها، يضمهم إلى حنايا صدره، والتاريخ عرف رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر، فهذه من وجوه التعامل مع الأطفال.
التعامل أيضًا مع الحيوان الأعجمي أنه لا يعذب بالنار الأدب النار حينما أحرق بعض الصحابة وادي النمل.
غفر الله لأمرأة كانت بَغْي ـ زانية ـ من بني إسرائيل رأت كلبًا أدركه العطش نزعت خفها وسقت الكلب فشكر الله صنيعها وغفر لها، ( من فجع هذه بوالدها ردو عليها ولدها)، والتي دخلت النار في هرة. وفي صحيح البخاري نجد حديث لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأقرت بقتلها ” هذا الحديث دليل على مشروعية حفظ الأجناس من الإنقراض.
وسعت حتى بالنسبة للنبات، فالرحمة تخللت.
هذا كله إحياء للنبات إعمار للأرض الحفاظ على مصادر الحياة الحفاظ على نقاء الجو من التلوث التعامل مع الكون، الرحمة في الكون، الآن الحضارة الغربية تعاملت مع الكون بمنطق السيطرة بمنطق الهيمنة والغلبة وليس بمنطق القرآن منطق التسخير أنها مسخرة.
الأستاذ / أحمد فراج :
هذه قضية مهمة ـ موضوع البيئة ـ نحن نعرف أن عناية الإسلام للبيئة، أو عناية العصر للبيئة عناية عمرها سنوات، أي الكلام عنها والحاجات التي تسبب تلوثها بجميع المواد اجتمعت له الدول للحديث عنها، وهناك إحدى الاتفاقيات انسحبت منها الولايات المتحدة.
الإسلام عنايته للبيئة ملفتة للنظر، حرم الإفساد في الأرض ونهي عن الذين يفسدون فيها.
أ.د. عصام البشير :
أولاً : البيئة والكون الطبيعي هو مصدر من مصادر المعرفة، فالمعرفة لها مصدران معرفة شرعية ومعرفة طبيعية، فالشريعة مصدرها الوحي، أما الطبيعة فمصدرها الكون، الكون الطبيعي أو البشري فالبيئة هي بالنسبة لنا أولاً مصدر من مصادر المعرفة والوسيلة للمعرفتين، السمع والأبصار والأفئدة.
الأمر الثاني : العلاقة بينها وبين البيئة، والكون هي علاقة لها بعد روحي، الله عز وجل جعل هذا الكون عابد ومسبح، والإنسان ترك للاختيار، فحينما يكون المسلم يحققًا العبودية لله يكون في رحلة تناغم وانسجام مع هذا الكون العابد المسبح، ولهذا يقول الله تعالى ] يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ [ يعني رجعي تسبيحك ليكون مسنجمًا مع تسبييح داود، وهناك يقول ] فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [ ويقول علىِّ إذا مات المسلم بكى عليه موضعان موضع في السماء وموضع في الأرض.
موضعه في السماء موضع صعود عمله الطيب وموضعه في الأرض موضع سجوده وصلاته، ثم العلاقة العاطفية، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال ” أُحُدْ جبل يحبكم ويحبه وأني لأعرف حجر يسلم عليه لما انتقل من الجذع وصنع له منبر من خشب سمع للجذع آنين كآنين الناقة التي فقدت ولدها، لذلك يقال الجذع حن بها وآن.
فهذه العلاقة العاطفية، وهناك علاقة جمالية، وأنا أعتقد أن إحدى مفردات المشروع هو الحس الجمالي المفقود عند المسلمين، الله عز وجل جميل ويحب الجمال وأمرنا أن ننظف أفنيتنا، طهارة الباطن والظاهر، ولذلك يقول ] وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [ هذه الآية يسترشد فيها الفقهاء المشروعية في طهارة الثوب ويأخذ منها أهل التذكية طهارة الباطن، كل إشارة هي مثل هذه العلاقة الجمالية، هناك حدائق ذات بهجة بالنسبة للأرض ] وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [ ] وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [ ] قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُّوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [ ثم بعد ذلك يأتي الاستمتاع بالطيبات، وعدم الاستمتاع في مقابل الاستنهام الإمكان ] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [.
إذن العلاقة بالبيئة على أنها مصر معرفة وعلاقة عاطفية وروحية وجمالية ولتكن رؤية الإسلام في التعامل مع البيئة من منطلق التسخير.
الأستاذ / أحمد فراج
وكذلك الكلام عن الأشجار والغابات على أنها رئة الدنيا ورئة الأرض فهذا حفاظ على البيئة والموارد وهذا ضد عملية الإفساد.
أ.د. عصام البشير :
نعم، ففي الجهاد يقال لهم لا تقطعوا شجر مثمر ولا نخل ولا كذا ولا كذا، فهذا حفاظ على البيئة، وكذلك الحفاظ على الأجناس من الانقراض ( لو أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ).
الأستاذ أحمد فراج :
وكذلك قوله تعالى ] وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [، ففي هذا استمرار وفي قوله تعالى ] وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [.
أ.د. عصام البشير :
وكذلك في معاني أعطي الطريق حقه، نعم، كلها معاني قد تكون بلورة لمشروع حضاري في النظر للكون الذي يعاني منه العالم في قضية إفساد البيئة وطبقة الأوزون والتلوث الإشعاعي كما في محطة تشيرنوبل. التي حدث فيها التسريب للغازات السامة وثاني أكسيد الكربون وإذابة الجليد القطبي وما يترتب عليه من تأثير كبير جدًا، فهذا كله يؤكد الاختلال لأن العالم لم يتعامل بمنطق السنن الإلهية في قاعدة التسخير مع البيئة، هذا جانب من الجوانب التي نعتقد أنه يدخل ضمن المشروع الحضاري الذي يندرج تحت قوله تعالى ] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [
الأستاذ / أحمد فارج :
كيف يمكن أن تكون هذه الرحمة أيضًا بأمة الإجابة أو أمة الدعوة.
أ.د. عصام البشير :
إن أمة الإجابة هم الذين استجابوا لله ورسوله، وأمة الدعوة هم غير المسلمين نخاطبهم للإسلام، وأمة الإجابة نلاحظ أيضًا أمر التشريع أنه من رحمة الله أن أنزل بعض آياته محكمات وأخر متشابهات، وجعل الخلاف رحمة ولذلك قالوا [ ولذلك خلقه ] أي للرحمة خلقه، والنصوص التي تفهم باللغة واللغة فيها المجاز والحقيقة، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، نجد فيه هذه السعة في فهم هذه النصوص، فالرحمة أولاً تجلت في أمة الإجابة، تعدد الإفهام في تعدد النصوص والبنية الدلالية، والقرآن حين يقول [ وإن لمستم النساء ] يقول عمر بن عبدالله اللمس أي وضع اليد على البشرة، ويأتي حبر الأمة فيقول المس والملامسة والمباشرة في القرآن كناية عن الجماع، إن الله حيي كريم يكنى عما شاء بما شاء [ الآن باشرهن ] [ لم يمسسني بشر ] ونقول أيضًا في قوله تعالى [ لا يطلبون في مؤمن ] و”إلا”يقول الطبري اسم الله في العبرية أي لا يطلبون شيء من الله، و” إلا ” تعني الكرامة، بمعنى العهد، فهذا التفاوت في النظر دليل على رحمة التشريع، فالرسول صلى الله عليه وسلم، لم يعنف إحدى الطائفين في صلاة بني قريظة ليقرهم على مبدأ الاجتهاد، ولذلك عرف تراثنا على رخص ابن عباس وعرف المدرسة المضيقة والمدرسة الموسعة وعرفة مدرسة أهل الظاهر ومدرسة أهل الفحوى والمقاصد، وعرف مدرسة أهل الأثر ومدرسة أهل الرأي، هذا كله خصوبة كذلك القاسم ابن محمد قال ما يسرني أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم اتفقوا لو اتفقوا لكان الأمر عسرًا وكان مشقًا ولكن اختلفوا فكان رحمة، والذي يعني بالتشريع، قال قواعد شرعية كثيرة جدًا، الأمر إذا ضاق اتسع، “المشقة تجلب التيسير”، “عموم البلوة من موجبات التيسير”، “الضرورات تبيح المحظورات”، “الحاجة تنزل منزلة الضرورة خاصة كانت أو عامة “، ” جمع من غير سفر ولا مطر ولا خوف قيل لي من فعل ذلك قال أراد ألا يخرج أمته “.
الأستاذ أحمد فراج :
ربما تكون هذه بعض صور الرحمة أو مشروع الرحمة الحضاري إن جاز التعبير، وأعتقد أن هناك مجالات أخرى تزيد هذا الأمر وضوحًا، بيان مجالات الرحمة مع أمة الدعوة، مع التعايش مع التعاون، مع كل القيم التي تؤكد على اتساع أفاق الرحمة في الإسلام، لتشمل آفاق الحياة كلها، وهذا يمكن أن يكون موضعًا مستقلاً في لقاء قادم إن شاء الله.
ويبقى أن نقدم خالص الشكر إلى أ.د. عصام البشير، المفكر الإسلامي المرموق ووزير الأوقاف في جمهورية السودان الشقيق، شكرًا سيدي الكريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.